القضية الثانية: ذكر المُصنِّف هنا قول مُقاتِل وهو: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يبعث رسولاً إِلَى الإنس والجن قبله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمراد من هذا ليس معناه أن الله لم يبعث إِلَى الإنس والجن رسولاً؛ ولكن المقصود عامة الجن والإنس قبله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا الكلام حق، فالله لم يبعث أحداً إِلَى الإنس عامة والجن عامة إلا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومقصود مقاتل - رَحِمَهُ اللَّهُ - الذي انتقد عليه: أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لم يبعث رسولاً من الإنس إِلَى الإنس والجن معاً، وإن كَانَ قد بعث إِلَى قومه من الإنس، فيدعو قومه من الإنس، ويدعو معهم طائفة من الجن أو قوماً من الجن، وهذا مردود بقصة الجن الذين ذكرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الأحقاف: ((قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ))[الأحقاف:30] فهذا دليل عَلَى أن أُولَئِكَ النفر من الجن كانوا عَلَى دين موسى عَلَيْهِ السَّلام، أو كانوا يسمعون عَلَى الأقل وكذلك كَانَ أجدادهم من قبل عَلَى دين موسى عَلَيْهِ السَّلام.
ثُمَّ جَاءَ بعده هذا النبي فَقَالُوا: إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى قد يقول قائل لماذا قالوا: من بعد موسى مع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد بعث من بعد موسى أنبياء، كداود وسليمان وكذلك عيسى عَلَيْهِ السَّلام؟ الجواب -كما هو معلوم- أن شريعة داود وسليمان وعيسى عليهم السلام وكل أنبياء بني إسرائيل هي التوراة التي أنزلت عَلَى موسى، وأما الزبور والإنجيل فإنها مواعظ وحكم وعبر وفيها بعض تقييدات في أحكام الحلال والحرام، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى لسان عيسى بن مريم ((وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ))[آل عمران:50].
فأحل عيسى عَلَيْهِ السَّلام بوحي من الله عَزَّ وَجَلَّ بعض ما كَانَ محرماً عَلَى بني إسرائيل في أحكام التوراة لكنه مكمل ومتمم ومصدق لما بين يديه من التوراة،
ثُمَّ يأتي سؤال وهو هل رسل الجن من الجن أم من الإنس، اختلف العلماء في ذلك وقد نقل الإمام ابن أبي العز هنا كلام الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الأحقاف وكذلك هو منقول من تفسير الإمام مُحَمَّد بن جرير الطبري في آية الأنعام، وهي قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ))[الأنعام:130].
1) مذهب ابن عباس ومجاهد وابن جريج رَضِيَ اللهُ عَنْهُم في هذه المسألة:
ذهب ابن عباس ومجاهد وابن جريج رَضِيَ اللهُ عَنْهُم إِلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعث من الإنس الرسل، ومن الجن النُذُر ومعنى ذلك: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يبعث رسله من الإنس فيسمعهم الجن كمثل الجن الذين سمعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فولوا إِلَى قومهم منذرين، فيكون النذر من الجن، والرسل من الإنس: وهذا الذي قال به ابن عباس ومجاهد وابن جريج وهو قول أكثر السلف.
وقال بعضهم: -ولم أجده -ذكر ابن جرير عن الضحاك، فقد ورد أن الضحاك بن مزاحم سأله رجل: هل بعث الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من الجن رسلاً؟
فتلا عليه الضحاك هذه الآية نفسها من سورة الأنعام: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)) [الأنعام:130] فاستدل بذلك الضحاك على أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول يَوْمَ القِيَامَةِ إذا سأل الجن والإنس: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)) [الأنعام:130] ففهم من ذلك أن الإنس تأتيهم الرسل من الإنس، وأن الجن تأتيهم الرسل من الجن.
أما الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - فإنه أطلق القول، وقَالَ: "ولا شك أن الرسل من الإنس "، ومما استدل به ((وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ)) [الأنبياء:7] ومن أقوى ما استدل به قول الله - تَعَالَى - في حق إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام ((وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب)) [العنكبوت:27] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خص إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام بأن جعل في ذريته النبوة والكتاب، فالقول بأن بعد إبراهيم نبي من الجن ينافي هذا التكريم وهذا الاختصاص الذي اختص الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى به إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام.

2) القول الراجح في هذه المسألة:
الذي يظهر أن الأمر ليس قوياً وقاطعاً بأن الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - لم يبعث من الجن رسلاً، وإنما هي وجهة نظر أقوى؛ لأن الذين قالوا بها من السلف أكثر ونحن يسعنا ما وسعهم.
فلا يعني ذلك أنه ينفى عن الجن هذا الشيء، بل يحتاج نفيه أو إثباته إِلَى دليل خارج فهذا الذي يبدو، والله تَعَالَى أعلم.
لكن نظل نَحْنُ مع ما قاله ابن عباس ومجاهد وابن جريج كما هو ظاهر سورة الأحقاف أن الله يبعث الرسل من الإنس، وأن من الجن من يستمع ذلك الوحي فينذرون أقوامهم بذلك، وأما بقية الأحكام فليس هناك فرق ولا خلاف عَلَى الصحيح بين الإنس والجن، فهم يحاسبون يَوْمَ القِيَامَةِ، ويوقفون بين يدي الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كما في هذه الآية وغيرها.